الفصاحة في البيان و التبيين
توطئـــة :
سنهتمّ بمسألة الفصاحة عند أحد الأعلام البارزين خلال القرن الثاني لهجرة وهو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(1) في كتابه البيان و التبيين (2) و يبدو لنا من الوهلة الأولى أنّنا نبحث عن شيء في غير موضعه ، لأن مادّة الكتاب متنوّعة تنوّعا عجيبا جعل من الصّعب إخضاعها بسهولة إلى مثل هذا البحث رغم تعدّد أماكن الحديث عن البيان و البلاغة لذلك فإن أي تنظيم يذكر لا يكون إلاّ لغاية منهجيّة .
بعد قراءة الكتاب و بعد استخراج المادّة المتعلّقة بالفصاحة يمكن أن نقترح التنظيم التّالي :
Ø محور تحديد الفصاحة ، هذا المحور يحدّد انطلاقا من علاقة الفصاحة بالبلاغة ، ثمّ إنه حديث عن البيان و فنّ الخطابة
Ø محور تحدّث فيه الكاتب عن أنواع الفصاحة و نعني بذلك حديثه عن فصاحة الصّوت و الحرف و فصاحة الألسن ...
Ø محور يمكن أن نسميه (عيوب الفصاحة أو ما يحدّ من الفصاحة ، هذا المحور ينقسم بدوره إلى قسمين :
قسم يتعلق بالعيوب الخلقيّة و قسم يتحدث فيه الكاتب عن ضعف المادّة أو ضعف (آلة البيان ).
Ø محور : أشار فيه الجاحظ إلى طبقات الفصاحة: أمور متعلّقة بالألسن أو اللّهجات و أمور أخرى متعلّقة بكلام العامّة مقارنة و كلام الخاصّة ...
Ø محور أخير اخترنا له عنوان ( مدار الفصاحة )و هو بمثابة الاستنتاج العام حول روافد الكتاب و مضامينه .
1- حدّ الفصاحة ( في البيان و التبيين )
الحديث عن حدّ الفصاحة جاء متناثرا في الكتاب بل قل جاء عند حديث الجاحظ عن أمور تتعلق بالكلام و الإبلاغ و يقدّم الكاتب هذا التّعريف باستعمال كلمات مرادفة للفصاحة كالبيان و الوضوح في الكلام و أغلبها جاءت في حديثه عن نوادر الأعراب و أخبارهم . هذا الجانب نجده خاصّة في الجزء الأوّل من الكتاب ، يقول (3) " لأنّ مدار الأمر و الغاية التي إليها يجري القارئ و السّامع إنّما هو الفهم و الإفهام فبأيّ شيء بلغت الإفهام و أوضحت عن المعنى ، فذلك هو البيان في ذلك الموضع ..." و كذلك في حديثه عن البيان يقول (4) : " البيان اسم جامع لكلّ شيء
كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون ضمير حتّى يفضي السّامع إلى
حقيقته ...".
من هنا تكون الفصاحة مرادفة للبيان لأنه يكشف عن المعنى و يجليه للسّامع
و الفصاحة من هذا المنطق تتّصل بالعلاقة القائمة بين اللّفظ و المعنى و بين الكلام و قائله و بين المتكلّم و السّامع إنّها تعني الوضوح و البيان و تعني في مقابل ذلك الابتعاد عن التكلّف و عن الآفات التي تخلّ بالبيان فالكلام الفصيح هو الكلام الواضح الخالي من التصنّع و من أي شيء يحدّ من حسنه و هذا أمر في غاية الأهمية لأنّ الفصاحة أمر يحتاج إلى كفاية لغوية و إلى سلامة آلة النّطق ينضاف إليها قدرة المتكلم على صوغ كلامه وفق نظام سلس وسليم .
كما يمكن لنا أن نستخرج هذا الحدّ من خلال جمعنا لبعض الألفاظ التي تناقض في معناها الفصاحة وهي نعوت دالّة على عيوب إذا توفّرت عند شخص ما انتفت عنه الفصاحة. لقد تحدّثت مثلا عن العي(5) و الانسداد (6) و الحبسة (7)
و الحصر (8) و الهذر(9) و سنتعرض إليها بأكثر دقّة في المحور الثالث و الذي يهمّنا هنا أنّ الفصاحة قد عرفت بما يجب أن يكون و بما لا يجب أن يكون أي بالشيء و ضدّه . و يستشهد الجاحظ في هذا المجال بقصّة موسى عليه السلام في قوله تعالى (10): " و أخي هارون هو أفصح منّي لسانا " فرغبة موسى تتمثل في غاية الإفصاح بالحجّة لاستمالة النّفوس . فالفصاحة إلى جانب أنّها تعني الوضوح فهي كذلك تعني الخلوص من أيّ عائق يحدّ من إبلاغ الكلام على الوجه السّليم . و ليس غريبا أن نجد مثل هذه الأحاديث في الكتاب لأنّ غاية المؤلف هي الحديث عن البيان و درجاته و عن بلغاء العرب و فصحائهم . لذلك فإنّ مفهوم الفصاحة اقترن عنده بمسائل تتعلّق بالكلام
و الإفهام و الآفات التي تطرأ على الخطاب .
و الفصاحة إلى جانب ذلك أنواع تحدّث عنها الكاتب في كثير من المواطن في كتابه حاولنا جمعها و تنظيمها تحت هذا العصر التّالي:
2- أنواع الفصاحة ( عند الجاحظ ) :
بعد قراءة المادّة المتعلّقة بالفصاحة يمكن أن نخرج بنتائج خاصّة أنّه يميّز بين فصاحة الصوت و الحرف و ذلك من خلال حديثه عن الغريب و اللّثّغة (11). كذلك يتحدّث عن الأحرف العربية المتناثرة ثم كلامه عن الأصوات المسخوطة .
يؤكد الجاحظ على ضرورة إعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة يقول :" و إنّ البيان يحتاج إلى تمييز و سياسة ...و إلى سهولة المخرج .. و تكميل الحروف و أنّ حاجة المنطق إلى الطلاوة و الحلاوة كحاجته إلى الجلالة و الفخامة و إنّ ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب و تنثني إليه الأعناق و تزين به المعنى ...")
فاللّفظ الفصيح هو ما كان سهلا في مخرجه أي في نطقه و جميلا في وقعه على السمع و في انتظامه مع غيره يكوّن كلاما حلوا جميلا و هذا اللّفظ وجب أن تكون حروفه أيضا غير منفّرة للسمع و غير مستعصية على اللّسان ثم إنّ هذا اللّفظ يجب أين يكون حاملا لمعنى شريف جميل هو الآخر و يستشهد بقول الرّسول الذي عاب فيه الفدادين (12)
و يواصل حديثه في هذا البيان فيتحدث عن اللّثّغة و أنواعها فهي تكون بالغين و الذال و الياء و أقلّها قبحا بالغين وهي موجودة عند كبار الناس و بلغائهم و إشرافهم و علمائهم . و لذلك قارن الجاحظ بين لثغة محمد شبيب و لثغة واصل بن عطاء.(13).
ثم نجده يتحدث في مكان آخر من كثابه عن الألفاظ المسخوطة و عن الأصوات المكروهة و القبيحة . يقول واصفا فعل الكلام الساقط المسخوط في النفس (14) : " ثم اعلموا أنّ المعني الحقير الفاسد و الدنيء الساقط يعشّش في القلب ... و اللّفظ الهجين الرديء و المستنكر الغبي أعلق باللسان و أكف للسّمع ..." هذا الموقف هامّ لأنّه يفسّر طبيعة النفس البشرية وهو موقف أكدته التجارب العلمية الحديثة . و هذا المجال ينضاف إليه الحديث عن الغريب يقول متحدّثا عن تفضيل النّاس للغريب (15): " و النّاس موكولون بتعظيم الغريب و استطراف البديع لهم في الموجود الرّاهن المقيم و فيما تحت قدرتهم من الرّأي و الهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل و في النّادر الشاذ ".
الفصاحة إذن ليست في الحروف أو الأصوات فحسب و إنّما هي في الكلام أيضا و مع اعتبار هذا الأمر فإنّ فصاحة المتكلّم تدخل في هذا المجال . إنّ الأصوات المسخوطة أو الكلام الغريب لا يصبحان على حالة أخرى مهما كان المتكلّم . و مهما كان المقام (16) الذي يذكر فيه مثل هذه الأحاديث و بذلك فأن فصاحة المتكلّم هي أول في اعتبار قدرته على الصنعة دون تكلّف و كذلك أن يكون الكلام عن طبيعة و سليقة في المتكلم وهو أمر موجود عند العامّة لأنّها كما قال الجاحظ :" لا تختار في كلامها ألفاظا معيّنة و مدقّقة و إنّما تتكلّم وفق طبيعتها وهواها . هذا الباب يجرّنا للحديث عن الآفات أو العيوب التي تصيب الفصاحة فتحدّ منها أو التي تمنع من أن يتحلّى شخص ما بالفصاحة .
لذلك جمعنا هذه العيوب في العنصر التالي :
3- عيوب الفصاحة :
هذه الآفات يمكن جمعها من فصول الكتاب وهي و إن كانت متفرّقة فهي واضحة لأنّ الجاحظ يصرّح بها و يعطي أمثلة عنها و أغلب هذه الأحاديث جاءت عن العيّ . منذ الصّفحات الأولى يذكر أنّه مرادف للذّقم وهو بمعنى الانسداد و يقابل البيان . و العي أنواع جمعت في قول الشاعر (17) :
وعي الفعال كعيّ المقال و في الصمت عيّ كعيّ الكلم
و العيّ من الخلق ما لم يكن مزمنا و ضرب اللّه مثلا لعيّ اللّسان ورداءة البيان حين شبّه أهله بالنّساء و الولدان :
فيقول تعالى (19): " أو من ينشّأ في الحلية وهو في الخصام مبين ."
هذه الصفة من أقبح النعوت التي ينعت بها المتكلّم ، و تأتي في المرتبة الأولى قبل مجموعة من الآفات الأخرى ، نجده يتحدّث عن التشتت و عن التلجلج(20) وهي صفة يعرف بها عمر بن العاص فقد كان ثقيل اللّسان .
ثمّ إنّنا نجد حديثا عن بعض الآفات التي تعتري اللّسان مثل اللّثغة وهي تدخل على أربعة حروف هي : السين و القاف و اللاّم و الراء . و يمكن أن نجمع إمكانيّات اللّثغ في هذا الجدول .
الحرف يصبح مثال
- السين ثـــاء أبي يكسوم أبي يكثوم
- القاف طاء قلت له طلت له
- ياء - اعتللت اعتييت
- اللام - كافا - ما العلّة في هذا؟ما اكعلّة في هذا ؟
- باء - عمرو عمي
- الراء -غينا - عمرو عمغ
- ذالا - عمرو عمذ
حتى أنّه يجعل درجات في اللّثغة في الرّاء التي تتحوّل إلى ياء هي أحقر و أوضع أنواع اللّثغة . ثم بعدها الرّاء التي تتحوّل إلى ظاء و بعدهاا الرّاء التي تتحوّل إلى ذال كذلك نجده يتحدّث عن التّمتام (21) و الفأفاء (22) و الأتفّ (23) وهي عيوب تخصّ الشخص المتكلّم . ثمّ كلامه عن اللّكنة وهي ادخال بعض الحروف العجم في حروف العرب ، و إذا كان لسان المتكلّم حكلة (24) فذلك راجع حسب قوله إلى نقصان آلة النطق و عجز أداة اللّفظ و يستشهد ببيت لرؤبة بن العجّاج :
لو أنّني أوتيت علم الحكل علم سليمان كلام النّمل
و يواصل حديثه عن العيوب التي تعتري اللّسان فيتحدث عن النّحنحة والسعلة وهي عيوب خلقية في كلامه عن الخطباء فمنهم من كان اشغى و منهم من كان أروق
و منهم من كان أشدق و من كان أحجم و من كان أفقم . هذه العيوب تحدث عنها القدامى و جعلوها على درجات بمعنى إن بعضها اخف من البعض الآخر قبحا يقول(25): " الحصر المتكلف و العي المتزيد ألوم من البديع المتكلف و ممن يكون ألوم من المتشدقين و من الثرثارين المتفيقهين ". و يقول في بداية الجزء الأوّل : " المتّصف بهذه الأوصاف أو بإحداها من عي يتكلف الخطابة و من حصر يتعرّض لأهل الاعتياد
و الدّربة ".
و هذه العيوب قد يلمس لها العذر عند العامّة جانبا للحن وهو يتمثّل في إخراج كلام العرب مخرج كلام المولّدين و البلديين و يكون بإخلال الأعراب و بمخارج الحروف
و يصنّفه إلى ثلاثة أصناف (26):
- الصّنف الأوّل : لحن الجواري الظّراف و الكواعب النّواهد و الشواب الملاح و من ذوات الخدور و الغرائر . و يشترط فيه الجاحظ أن لا يكون بتكلف ( أن يكون من الطبع )
- الصّنف الثّاني : لحن أصحاب التّقعيب و التّشديق و التّمطيط و الجهورة و التّفخيم مثل قول بعضهم : " من قفائها أو من قفاؤها عوض من قفاها .
- الصّنف الثالث : لحن الأعاريب النّازلين على طرق السابلة و بقرب مجامع الأسواق في مثل قولهم :" كيف اهلك " .
نلاحظ وجود نظرة طريفة و منطقية في الآن نفسه هي قبوله للحن العامّة و خاصّة ، لحن الجواري لأنّه عن طبع لا عن تكلّف . فكلام الجواري يجمع بين الظّرف و الملاحة وهو مقياس ذوقي انطباعي اعتمد عليه الجاحظ و مازال يعتمد عليه اللّغويون بعده .
ثمّ إننا نجد حديثا عن تأثّر لغة أهل المدينة (28) بلغة أهل الفرس ، و كذلك تأثّر لغة أهل الكوفة باللّغة نفسها ، و هذا لأنّ المناطق المتاخمة للأمم الأخرى تتأثّر لغاتها أكثر من غيرها من المناطق الضّاربة في البداوة و النائيّة عن التّخوم .
و نجده يتحدّث بعد ذلك عن لغة العامّة (29) و يذكر أنّها لا تتفقد من الألفاظ ما هو أحق بالذكر و أولى بالإستعمال لأنّها ربّما استخفت أقل اللّغتين و أوضعها فهي تستعمل ما هو أقل من أصل اللّغة و تدع ما هو أظهر و أكثر و هذه المسألة سنتحدّث عنها بأكثر تفصيل في هذا العنصر الذي اخترنا له عنوان (مستويات الفصاحة ) .
بعد استقراء مادة الكتاب نلاحظ أن مستويات الفصاحة تعني طبقات الكلام و أنواع المتكلّمين فمنها ما هو لهجة و منها ما هو خاص بفئات اجتماعية و منها ما هو عام يميز فيه الجاحظ الفصاحة عند الحيوان (30) و الإنسان . و سنهتمّ بالفصاحة عند الإنسان لأنّها محور حديثنا و غاية عملنا .
4- مستويات الفصاحة :
بعد جمع المادة المتعلّقة بهذا الموضوع يمكن أن نضع هذه " الترسيمة " لنوضّح بها كلام الجاحظ .
الفصاحـــة
العرب الفرس الهند الروم
وسط الجزيرة التّخوم
القبائل الضّارية في البداوة :
هذه التّرسيمة توضّح تدرّج الجاحظ في تناول مسألة الفصاحة فبعد حصرها في الإنسان دون الحيوان ينعت العرب (31) دون غيرهم من الأمم بالتحلي بها أي الذين ابتعدوا عن تأثير الأمم المجاورة .
بعد هذا الكلام العام تدرّج بنا الجاحظ إلى الحديث عن مسائل تهمّ اللّهجات و تهمّ وجود بعض الألفاظ الدّخيلة في اللّغة العربية (32) يشير مثلا إلى وجود ألفاظ أعجمية في كل من لغة أهل المدينة و الكوفة .
الكلمة في العربية
أهل المدينة
أهل الكوفة
- البطّيخ
الخربز
- السّميط
الروذق
- المصوص
المزوز
- الشطرنج
الأشترنج
- المسحاة
بال
- الحوك
باذروج
بعد ذلك يتحدّث الجاحظ عن أفصح القبائل (33) فيحصرها في الحجاز و بالتّحديد في قبيلة قريش و يقدّم حججا في ذلك .
- الحجة الأولى : يقول : " لأنّهم ارتفعوا عن لخلخانيّة الفرات ". هذه الظاهرة ينسبها الجاحظ إلى الشّمال و تتمثّل في اختصار بعض العبارات بقولهم (مشلله) عوض ما شاء الله .
- الحجّة الثانية : يقول : " لأنّهم ارتفعوا أوتيامنوا عن كشكشة تميم " . وهي لهجة كانت تعرض في ألسنة بني تميم . يقولون في خطاب المؤنث : " ما الذي جاء بش" عوض ما الذي جاء بك ؟ أي نطق الكاف شينا .
- الحجّة الثالثة : يقول :" لأنّهم تياسروا عن كسكسة بكر " . هذه الظاهرة كانت تعرض في ألسنة بني بكر بن وائل ، كقولهم : " أكرمتكس " و " بكس " .
- الحجّة الرابعة : أنّ قريش ليس لها غمغمة قضاعة : وهو الكلام الذي لا يبين .
- الحجّة الأخيرة : أنّهم ابتعدوا عن طمطمانيّة حمير ، وهي لهجة توجد في ألسنة حمير ، ينطقون : " طاب الهواء " ، " طاب امهواء " (نطق أداة التّعريف الـ / أم).
و دليلنا على أنّه يقدّم قريشا على غيرها من القبائل قوله (34) : " هذا سوى ما رسمناه في كتابنا هذا من مقطعات كلام العرب الفصحاء ، و جمل كلام الأعراب الخلّص، و أهل اللسن من رجالات قريش ..."
بعد ذلك يصل بنا الحديث إلى أفصح النّاس : هو عند الجاحظ الرّسول محمّد (ص) يقول : " كلام الرّسول هو كلام قلّ عدد حروفه و كثر عدد معانيه و جلّ عن الصّنعة و نزه عن التكلّف ، فقد غاب التّشديق و جانب أصحاب التّقعير و استعمل المبسوط في موضع البسط و المقصور في موضع القصر و هجر الغريب الوحشي و رغب عن الهجين السوقي ..." بهذا يكون الرّسول (ص) أفصح المتكلّمين لتوفّر هذه الخصال في كلامه الذي استحقّ به تلك المكانة من البيان.
و الحديث عن أفصح النّاس في البيان و التبيين كان تمهيدا للكلام عن طبقات الكلام . هذه الطبقات جمعها الجاحظ كما يلي : ( تدرّج من الأحسن إلى الأقلّ حسنا ) فهناك الكلام الجزل فالسخيف و المليح و الحسن ثمّ القبيح و السمج فالخفيف فالثّقيل . و يرى أنّ الكلام الجزل أو البليغ هو كلام الأعراب الفصحا ء .
العقلاء و كلام العلماء البلغاء . و يضيف قائلا (35) : " و أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيــــــــره ، و معناه في ظاهر لفظه " في حين يكون الكلام الحقير عنده ، ما كان معناه فاسدا . من أجل ذلك " تراه يعشّش في القلب ". (36) أكثر من غيره . أمّا اللّفظ الهجين الوطئ و المستنكر الغبي فأعلق باللّسان و ألف للسّميع من اللّفظ النّبيه الشّريف . لذلك نجد الجاحظ يتحدّث عن القرآن باعتباره الدّرجة القصوى في البيان
و الحسن ، و قد أكثر من الاستشهاد على ذلك ليظهر إعجاز هذا الكتاب . يقول (37): " و ذكر اللّه تعالى جميل بلائه في تعليمه البيان و عظيم نعمته في تقويم اللّسان و مدح القرآن بالبيان و الإفصاح و بحسن التفصيل و الإيضـــاح و بجودة الإفهام ، و حكمة الإبلاغ ، و سمّاه فرقانا ".
1- من كان بيّن اللسان
2- الشّاعر
3- الخطيب
4- من كان شاعرا خطيبا
و يؤكد الجاحظ على أنّ المتّصفين بالصفة الرابعة قلائل و يقدّم بعض الأسماء من الشعراء الخطباء (38) ، مثل الكميت بن زيد الأسدي ، الطرماح بن حكيم الطائي وعمران بن حطان. كذلك نجده يتحدث عن طبقات الشعراء(39) يذكر أربع طبقات
1-- الفحل الخنذيذ (40)
2 - الشاعر المفلق
3 – الشاعر
4 – الشعرور
ويعطي الجاحظ بعض النصائح للتحلي بالبيان وانتزاع مكانة بين الخطباء، وذلك عندما يتحدث عن تجنب السوقي والوحشي ، منها أن لا يجعل المتكلم همه في تهذيب الالفاظ، أن لا يجعل شغله في التخلص الى غرائب المعاني: "لأن في الاقتصار بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة، وأن يكون الكلام بين المقصر والغالي. لأن العرب تقول : "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" و "الصمت خير من كلام فيه عي وتشادق". على أن
توطئـــة :
سنهتمّ بمسألة الفصاحة عند أحد الأعلام البارزين خلال القرن الثاني لهجرة وهو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(1) في كتابه البيان و التبيين (2) و يبدو لنا من الوهلة الأولى أنّنا نبحث عن شيء في غير موضعه ، لأن مادّة الكتاب متنوّعة تنوّعا عجيبا جعل من الصّعب إخضاعها بسهولة إلى مثل هذا البحث رغم تعدّد أماكن الحديث عن البيان و البلاغة لذلك فإن أي تنظيم يذكر لا يكون إلاّ لغاية منهجيّة .
بعد قراءة الكتاب و بعد استخراج المادّة المتعلّقة بالفصاحة يمكن أن نقترح التنظيم التّالي :
Ø محور تحديد الفصاحة ، هذا المحور يحدّد انطلاقا من علاقة الفصاحة بالبلاغة ، ثمّ إنه حديث عن البيان و فنّ الخطابة
Ø محور تحدّث فيه الكاتب عن أنواع الفصاحة و نعني بذلك حديثه عن فصاحة الصّوت و الحرف و فصاحة الألسن ...
Ø محور يمكن أن نسميه (عيوب الفصاحة أو ما يحدّ من الفصاحة ، هذا المحور ينقسم بدوره إلى قسمين :
قسم يتعلق بالعيوب الخلقيّة و قسم يتحدث فيه الكاتب عن ضعف المادّة أو ضعف (آلة البيان ).
Ø محور : أشار فيه الجاحظ إلى طبقات الفصاحة: أمور متعلّقة بالألسن أو اللّهجات و أمور أخرى متعلّقة بكلام العامّة مقارنة و كلام الخاصّة ...
Ø محور أخير اخترنا له عنوان ( مدار الفصاحة )و هو بمثابة الاستنتاج العام حول روافد الكتاب و مضامينه .
1- حدّ الفصاحة ( في البيان و التبيين )
الحديث عن حدّ الفصاحة جاء متناثرا في الكتاب بل قل جاء عند حديث الجاحظ عن أمور تتعلق بالكلام و الإبلاغ و يقدّم الكاتب هذا التّعريف باستعمال كلمات مرادفة للفصاحة كالبيان و الوضوح في الكلام و أغلبها جاءت في حديثه عن نوادر الأعراب و أخبارهم . هذا الجانب نجده خاصّة في الجزء الأوّل من الكتاب ، يقول (3) " لأنّ مدار الأمر و الغاية التي إليها يجري القارئ و السّامع إنّما هو الفهم و الإفهام فبأيّ شيء بلغت الإفهام و أوضحت عن المعنى ، فذلك هو البيان في ذلك الموضع ..." و كذلك في حديثه عن البيان يقول (4) : " البيان اسم جامع لكلّ شيء
كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون ضمير حتّى يفضي السّامع إلى
حقيقته ...".
من هنا تكون الفصاحة مرادفة للبيان لأنه يكشف عن المعنى و يجليه للسّامع
و الفصاحة من هذا المنطق تتّصل بالعلاقة القائمة بين اللّفظ و المعنى و بين الكلام و قائله و بين المتكلّم و السّامع إنّها تعني الوضوح و البيان و تعني في مقابل ذلك الابتعاد عن التكلّف و عن الآفات التي تخلّ بالبيان فالكلام الفصيح هو الكلام الواضح الخالي من التصنّع و من أي شيء يحدّ من حسنه و هذا أمر في غاية الأهمية لأنّ الفصاحة أمر يحتاج إلى كفاية لغوية و إلى سلامة آلة النّطق ينضاف إليها قدرة المتكلم على صوغ كلامه وفق نظام سلس وسليم .
كما يمكن لنا أن نستخرج هذا الحدّ من خلال جمعنا لبعض الألفاظ التي تناقض في معناها الفصاحة وهي نعوت دالّة على عيوب إذا توفّرت عند شخص ما انتفت عنه الفصاحة. لقد تحدّثت مثلا عن العي(5) و الانسداد (6) و الحبسة (7)
و الحصر (8) و الهذر(9) و سنتعرض إليها بأكثر دقّة في المحور الثالث و الذي يهمّنا هنا أنّ الفصاحة قد عرفت بما يجب أن يكون و بما لا يجب أن يكون أي بالشيء و ضدّه . و يستشهد الجاحظ في هذا المجال بقصّة موسى عليه السلام في قوله تعالى (10): " و أخي هارون هو أفصح منّي لسانا " فرغبة موسى تتمثل في غاية الإفصاح بالحجّة لاستمالة النّفوس . فالفصاحة إلى جانب أنّها تعني الوضوح فهي كذلك تعني الخلوص من أيّ عائق يحدّ من إبلاغ الكلام على الوجه السّليم . و ليس غريبا أن نجد مثل هذه الأحاديث في الكتاب لأنّ غاية المؤلف هي الحديث عن البيان و درجاته و عن بلغاء العرب و فصحائهم . لذلك فإنّ مفهوم الفصاحة اقترن عنده بمسائل تتعلّق بالكلام
و الإفهام و الآفات التي تطرأ على الخطاب .
و الفصاحة إلى جانب ذلك أنواع تحدّث عنها الكاتب في كثير من المواطن في كتابه حاولنا جمعها و تنظيمها تحت هذا العصر التّالي:
2- أنواع الفصاحة ( عند الجاحظ ) :
بعد قراءة المادّة المتعلّقة بالفصاحة يمكن أن نخرج بنتائج خاصّة أنّه يميّز بين فصاحة الصوت و الحرف و ذلك من خلال حديثه عن الغريب و اللّثّغة (11). كذلك يتحدّث عن الأحرف العربية المتناثرة ثم كلامه عن الأصوات المسخوطة .
يؤكد الجاحظ على ضرورة إعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة يقول :" و إنّ البيان يحتاج إلى تمييز و سياسة ...و إلى سهولة المخرج .. و تكميل الحروف و أنّ حاجة المنطق إلى الطلاوة و الحلاوة كحاجته إلى الجلالة و الفخامة و إنّ ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب و تنثني إليه الأعناق و تزين به المعنى ...")
فاللّفظ الفصيح هو ما كان سهلا في مخرجه أي في نطقه و جميلا في وقعه على السمع و في انتظامه مع غيره يكوّن كلاما حلوا جميلا و هذا اللّفظ وجب أن تكون حروفه أيضا غير منفّرة للسمع و غير مستعصية على اللّسان ثم إنّ هذا اللّفظ يجب أين يكون حاملا لمعنى شريف جميل هو الآخر و يستشهد بقول الرّسول الذي عاب فيه الفدادين (12)
و يواصل حديثه في هذا البيان فيتحدث عن اللّثّغة و أنواعها فهي تكون بالغين و الذال و الياء و أقلّها قبحا بالغين وهي موجودة عند كبار الناس و بلغائهم و إشرافهم و علمائهم . و لذلك قارن الجاحظ بين لثغة محمد شبيب و لثغة واصل بن عطاء.(13).
ثم نجده يتحدث في مكان آخر من كثابه عن الألفاظ المسخوطة و عن الأصوات المكروهة و القبيحة . يقول واصفا فعل الكلام الساقط المسخوط في النفس (14) : " ثم اعلموا أنّ المعني الحقير الفاسد و الدنيء الساقط يعشّش في القلب ... و اللّفظ الهجين الرديء و المستنكر الغبي أعلق باللسان و أكف للسّمع ..." هذا الموقف هامّ لأنّه يفسّر طبيعة النفس البشرية وهو موقف أكدته التجارب العلمية الحديثة . و هذا المجال ينضاف إليه الحديث عن الغريب يقول متحدّثا عن تفضيل النّاس للغريب (15): " و النّاس موكولون بتعظيم الغريب و استطراف البديع لهم في الموجود الرّاهن المقيم و فيما تحت قدرتهم من الرّأي و الهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل و في النّادر الشاذ ".
الفصاحة إذن ليست في الحروف أو الأصوات فحسب و إنّما هي في الكلام أيضا و مع اعتبار هذا الأمر فإنّ فصاحة المتكلّم تدخل في هذا المجال . إنّ الأصوات المسخوطة أو الكلام الغريب لا يصبحان على حالة أخرى مهما كان المتكلّم . و مهما كان المقام (16) الذي يذكر فيه مثل هذه الأحاديث و بذلك فأن فصاحة المتكلّم هي أول في اعتبار قدرته على الصنعة دون تكلّف و كذلك أن يكون الكلام عن طبيعة و سليقة في المتكلم وهو أمر موجود عند العامّة لأنّها كما قال الجاحظ :" لا تختار في كلامها ألفاظا معيّنة و مدقّقة و إنّما تتكلّم وفق طبيعتها وهواها . هذا الباب يجرّنا للحديث عن الآفات أو العيوب التي تصيب الفصاحة فتحدّ منها أو التي تمنع من أن يتحلّى شخص ما بالفصاحة .
لذلك جمعنا هذه العيوب في العنصر التالي :
3- عيوب الفصاحة :
هذه الآفات يمكن جمعها من فصول الكتاب وهي و إن كانت متفرّقة فهي واضحة لأنّ الجاحظ يصرّح بها و يعطي أمثلة عنها و أغلب هذه الأحاديث جاءت عن العيّ . منذ الصّفحات الأولى يذكر أنّه مرادف للذّقم وهو بمعنى الانسداد و يقابل البيان . و العي أنواع جمعت في قول الشاعر (17) :
وعي الفعال كعيّ المقال و في الصمت عيّ كعيّ الكلم
و العيّ من الخلق ما لم يكن مزمنا و ضرب اللّه مثلا لعيّ اللّسان ورداءة البيان حين شبّه أهله بالنّساء و الولدان :
فيقول تعالى (19): " أو من ينشّأ في الحلية وهو في الخصام مبين ."
هذه الصفة من أقبح النعوت التي ينعت بها المتكلّم ، و تأتي في المرتبة الأولى قبل مجموعة من الآفات الأخرى ، نجده يتحدّث عن التشتت و عن التلجلج(20) وهي صفة يعرف بها عمر بن العاص فقد كان ثقيل اللّسان .
ثمّ إنّنا نجد حديثا عن بعض الآفات التي تعتري اللّسان مثل اللّثغة وهي تدخل على أربعة حروف هي : السين و القاف و اللاّم و الراء . و يمكن أن نجمع إمكانيّات اللّثغ في هذا الجدول .
الحرف يصبح مثال
- السين ثـــاء أبي يكسوم أبي يكثوم
- القاف طاء قلت له طلت له
- ياء - اعتللت اعتييت
- اللام - كافا - ما العلّة في هذا؟ما اكعلّة في هذا ؟
- باء - عمرو عمي
- الراء -غينا - عمرو عمغ
- ذالا - عمرو عمذ
حتى أنّه يجعل درجات في اللّثغة في الرّاء التي تتحوّل إلى ياء هي أحقر و أوضع أنواع اللّثغة . ثم بعدها الرّاء التي تتحوّل إلى ظاء و بعدهاا الرّاء التي تتحوّل إلى ذال كذلك نجده يتحدّث عن التّمتام (21) و الفأفاء (22) و الأتفّ (23) وهي عيوب تخصّ الشخص المتكلّم . ثمّ كلامه عن اللّكنة وهي ادخال بعض الحروف العجم في حروف العرب ، و إذا كان لسان المتكلّم حكلة (24) فذلك راجع حسب قوله إلى نقصان آلة النطق و عجز أداة اللّفظ و يستشهد ببيت لرؤبة بن العجّاج :
لو أنّني أوتيت علم الحكل علم سليمان كلام النّمل
و يواصل حديثه عن العيوب التي تعتري اللّسان فيتحدث عن النّحنحة والسعلة وهي عيوب خلقية في كلامه عن الخطباء فمنهم من كان اشغى و منهم من كان أروق
و منهم من كان أشدق و من كان أحجم و من كان أفقم . هذه العيوب تحدث عنها القدامى و جعلوها على درجات بمعنى إن بعضها اخف من البعض الآخر قبحا يقول(25): " الحصر المتكلف و العي المتزيد ألوم من البديع المتكلف و ممن يكون ألوم من المتشدقين و من الثرثارين المتفيقهين ". و يقول في بداية الجزء الأوّل : " المتّصف بهذه الأوصاف أو بإحداها من عي يتكلف الخطابة و من حصر يتعرّض لأهل الاعتياد
و الدّربة ".
و هذه العيوب قد يلمس لها العذر عند العامّة جانبا للحن وهو يتمثّل في إخراج كلام العرب مخرج كلام المولّدين و البلديين و يكون بإخلال الأعراب و بمخارج الحروف
و يصنّفه إلى ثلاثة أصناف (26):
- الصّنف الأوّل : لحن الجواري الظّراف و الكواعب النّواهد و الشواب الملاح و من ذوات الخدور و الغرائر . و يشترط فيه الجاحظ أن لا يكون بتكلف ( أن يكون من الطبع )
- الصّنف الثّاني : لحن أصحاب التّقعيب و التّشديق و التّمطيط و الجهورة و التّفخيم مثل قول بعضهم : " من قفائها أو من قفاؤها عوض من قفاها .
- الصّنف الثالث : لحن الأعاريب النّازلين على طرق السابلة و بقرب مجامع الأسواق في مثل قولهم :" كيف اهلك " .
نلاحظ وجود نظرة طريفة و منطقية في الآن نفسه هي قبوله للحن العامّة و خاصّة ، لحن الجواري لأنّه عن طبع لا عن تكلّف . فكلام الجواري يجمع بين الظّرف و الملاحة وهو مقياس ذوقي انطباعي اعتمد عليه الجاحظ و مازال يعتمد عليه اللّغويون بعده .
ثمّ إننا نجد حديثا عن تأثّر لغة أهل المدينة (28) بلغة أهل الفرس ، و كذلك تأثّر لغة أهل الكوفة باللّغة نفسها ، و هذا لأنّ المناطق المتاخمة للأمم الأخرى تتأثّر لغاتها أكثر من غيرها من المناطق الضّاربة في البداوة و النائيّة عن التّخوم .
و نجده يتحدّث بعد ذلك عن لغة العامّة (29) و يذكر أنّها لا تتفقد من الألفاظ ما هو أحق بالذكر و أولى بالإستعمال لأنّها ربّما استخفت أقل اللّغتين و أوضعها فهي تستعمل ما هو أقل من أصل اللّغة و تدع ما هو أظهر و أكثر و هذه المسألة سنتحدّث عنها بأكثر تفصيل في هذا العنصر الذي اخترنا له عنوان (مستويات الفصاحة ) .
بعد استقراء مادة الكتاب نلاحظ أن مستويات الفصاحة تعني طبقات الكلام و أنواع المتكلّمين فمنها ما هو لهجة و منها ما هو خاص بفئات اجتماعية و منها ما هو عام يميز فيه الجاحظ الفصاحة عند الحيوان (30) و الإنسان . و سنهتمّ بالفصاحة عند الإنسان لأنّها محور حديثنا و غاية عملنا .
4- مستويات الفصاحة :
بعد جمع المادة المتعلّقة بهذا الموضوع يمكن أن نضع هذه " الترسيمة " لنوضّح بها كلام الجاحظ .
الفصاحـــة
العرب الفرس الهند الروم
وسط الجزيرة التّخوم
القبائل الضّارية في البداوة :
هذه التّرسيمة توضّح تدرّج الجاحظ في تناول مسألة الفصاحة فبعد حصرها في الإنسان دون الحيوان ينعت العرب (31) دون غيرهم من الأمم بالتحلي بها أي الذين ابتعدوا عن تأثير الأمم المجاورة .
بعد هذا الكلام العام تدرّج بنا الجاحظ إلى الحديث عن مسائل تهمّ اللّهجات و تهمّ وجود بعض الألفاظ الدّخيلة في اللّغة العربية (32) يشير مثلا إلى وجود ألفاظ أعجمية في كل من لغة أهل المدينة و الكوفة .
الكلمة في العربية
أهل المدينة
أهل الكوفة
- البطّيخ
الخربز
- السّميط
الروذق
- المصوص
المزوز
- الشطرنج
الأشترنج
- المسحاة
بال
- الحوك
باذروج
بعد ذلك يتحدّث الجاحظ عن أفصح القبائل (33) فيحصرها في الحجاز و بالتّحديد في قبيلة قريش و يقدّم حججا في ذلك .
- الحجة الأولى : يقول : " لأنّهم ارتفعوا عن لخلخانيّة الفرات ". هذه الظاهرة ينسبها الجاحظ إلى الشّمال و تتمثّل في اختصار بعض العبارات بقولهم (مشلله) عوض ما شاء الله .
- الحجّة الثانية : يقول : " لأنّهم ارتفعوا أوتيامنوا عن كشكشة تميم " . وهي لهجة كانت تعرض في ألسنة بني تميم . يقولون في خطاب المؤنث : " ما الذي جاء بش" عوض ما الذي جاء بك ؟ أي نطق الكاف شينا .
- الحجّة الثالثة : يقول :" لأنّهم تياسروا عن كسكسة بكر " . هذه الظاهرة كانت تعرض في ألسنة بني بكر بن وائل ، كقولهم : " أكرمتكس " و " بكس " .
- الحجّة الرابعة : أنّ قريش ليس لها غمغمة قضاعة : وهو الكلام الذي لا يبين .
- الحجّة الأخيرة : أنّهم ابتعدوا عن طمطمانيّة حمير ، وهي لهجة توجد في ألسنة حمير ، ينطقون : " طاب الهواء " ، " طاب امهواء " (نطق أداة التّعريف الـ / أم).
و دليلنا على أنّه يقدّم قريشا على غيرها من القبائل قوله (34) : " هذا سوى ما رسمناه في كتابنا هذا من مقطعات كلام العرب الفصحاء ، و جمل كلام الأعراب الخلّص، و أهل اللسن من رجالات قريش ..."
بعد ذلك يصل بنا الحديث إلى أفصح النّاس : هو عند الجاحظ الرّسول محمّد (ص) يقول : " كلام الرّسول هو كلام قلّ عدد حروفه و كثر عدد معانيه و جلّ عن الصّنعة و نزه عن التكلّف ، فقد غاب التّشديق و جانب أصحاب التّقعير و استعمل المبسوط في موضع البسط و المقصور في موضع القصر و هجر الغريب الوحشي و رغب عن الهجين السوقي ..." بهذا يكون الرّسول (ص) أفصح المتكلّمين لتوفّر هذه الخصال في كلامه الذي استحقّ به تلك المكانة من البيان.
و الحديث عن أفصح النّاس في البيان و التبيين كان تمهيدا للكلام عن طبقات الكلام . هذه الطبقات جمعها الجاحظ كما يلي : ( تدرّج من الأحسن إلى الأقلّ حسنا ) فهناك الكلام الجزل فالسخيف و المليح و الحسن ثمّ القبيح و السمج فالخفيف فالثّقيل . و يرى أنّ الكلام الجزل أو البليغ هو كلام الأعراب الفصحا ء .
العقلاء و كلام العلماء البلغاء . و يضيف قائلا (35) : " و أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيــــــــره ، و معناه في ظاهر لفظه " في حين يكون الكلام الحقير عنده ، ما كان معناه فاسدا . من أجل ذلك " تراه يعشّش في القلب ". (36) أكثر من غيره . أمّا اللّفظ الهجين الوطئ و المستنكر الغبي فأعلق باللّسان و ألف للسّميع من اللّفظ النّبيه الشّريف . لذلك نجد الجاحظ يتحدّث عن القرآن باعتباره الدّرجة القصوى في البيان
و الحسن ، و قد أكثر من الاستشهاد على ذلك ليظهر إعجاز هذا الكتاب . يقول (37): " و ذكر اللّه تعالى جميل بلائه في تعليمه البيان و عظيم نعمته في تقويم اللّسان و مدح القرآن بالبيان و الإفصاح و بحسن التفصيل و الإيضـــاح و بجودة الإفهام ، و حكمة الإبلاغ ، و سمّاه فرقانا ".
1- من كان بيّن اللسان
2- الشّاعر
3- الخطيب
4- من كان شاعرا خطيبا
و يؤكد الجاحظ على أنّ المتّصفين بالصفة الرابعة قلائل و يقدّم بعض الأسماء من الشعراء الخطباء (38) ، مثل الكميت بن زيد الأسدي ، الطرماح بن حكيم الطائي وعمران بن حطان. كذلك نجده يتحدث عن طبقات الشعراء(39) يذكر أربع طبقات
1-- الفحل الخنذيذ (40)
2 - الشاعر المفلق
3 – الشاعر
4 – الشعرور
ويعطي الجاحظ بعض النصائح للتحلي بالبيان وانتزاع مكانة بين الخطباء، وذلك عندما يتحدث عن تجنب السوقي والوحشي ، منها أن لا يجعل المتكلم همه في تهذيب الالفاظ، أن لا يجعل شغله في التخلص الى غرائب المعاني: "لأن في الاقتصار بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة، وأن يكون الكلام بين المقصر والغالي. لأن العرب تقول : "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" و "الصمت خير من كلام فيه عي وتشادق". على أن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق